كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يبقى حل الإشكال الثاني قال الله جل وعلا: {ولنسألن المرسلين} ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم}، فالإشكال الإجمال الذي في سورة الأعراف فصل في موضعين: فصل في القصص وفصل في المائدة وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين*والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون*ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم}:
الله جل وعلا حكم عدل ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة مثلا: مستشفى، إشارة، علامة، دار، مبنى، محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما.
يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شيء بارز تجتمع عنده الناس والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شيء إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا، الله يقول في القرآن: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث}والفراش يموج بعضه في بعض ومعنى الآيتين الجمع بينهما أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله جل وعلا: {يومئذ يتبعون الداعي} انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد هذا كله يكون يوم القيامة يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لابن عباس: «مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هو المطلع».
مما يكون يوم القيامة الميزان، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}، والله يقول هنا{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه} القصد بكلمة الحق أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين.
على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان، على أقوال أشهرها:
القول الأول: أن الذي يوزن العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» موضع الشاهد أنه قال أن: «الحمد لله تملأ الميزان» فهذا معنى إن العمل نفسه يوزن، وقال صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان طير صواف تحاجان عن أصحابها» فهذا من من أدلة من قال إن الذي يوزن العمل.
القول الثاني: إن الذي يوزن صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح: «إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئا؟ فيقول لا يارب فيقول الله جل وعلا له أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب، فيقول الله: إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول يارب وماتغني هذه البطاقة مع هذه السجلات: فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة». قال صلى الله عليه وسلم: «فطاشت السجلات ورجحت البطاقة» وعند زيادة عند الترمذي «ولا يثقل مع اسم الله شيء» فهذه أدلة من قال إن الذي يوزن صحائف العمل، والقول الأول أنه يوزن العمل.
القول الثالث: أنه يوزن صاحب العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين «يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة-والمقصود الكافر- يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} هذه أحد أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد». أي رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد هذه هي أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل.
قال الحافظ بين كثير رحمه الله تعالى جمعا بين الأدلة:
ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم.
{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}فالذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس قال عليه الصلاة والسلام: «الدين المعاملة» ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فضا ولا غليظا في خطابه فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين مع والديك مع أبنائك مع زوجاتك مع جيرانك مع عامة المسلمين تحب لهم ما تحب لنفسك تؤثرهم على نفسك تقبل اعتذارهم وتقيل عثراتهم وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن»، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو أماكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}، هذه تكلمنا عنها في تفسير سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا:
خلق الله جل وعلا أبانا آدم عليه السلام من قبضة قبضت من الأرض وجاء في بعض الآثار أن الله بعث ملكا يقبض تلك القبضة فلما وصل إلى الأرض قالت له الأرض: «أعوذ بالله منك» فرجع إلى ربه فسأله الله وهو أعلم قال: «يا رب استعاذت بك فأعذتها» فبعث الله وهو أعلم ملكا آخر غيره فقالت له الأرض مثل ما قالت لصاحبه فرجع إلى ربه فقال له مثل ما قال الأول فبعث الله ملكا ثالثا فلما جاء أن يقبض من الأرض قالت الأرض كما قالت لصاحبيه «أعوذ بالله منك» قال: «وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره» ثم أخذ قبضة من الأرض هذه القبضة جاءت مجتمعه مخلوطة ممزوجة فلما رفعت إلى ربنا جل جلاله خلطت بماء فأضحت طينا ثم تركت فترة فأضحت صلصالا من فخار بحيث أنه لو قرع يحدث صوتا على هذا هذه المراحل الثلاث كلها ذكرها الله جل وعلا في كتابه فقال جل ذكره: {خلقناكم من تراب} وقال: {خلقناهم من طين} وقال جل وعلا: {من صلصال كالفخار} لأن هذه المراحل الثلاث كلها مر بها خلق أبينا آدم.
ثم قال الله جل وعلا هنا: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم؟ في سورة التين: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته: «أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر» لا تطلق، ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن الله جل وعلا يقول: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}.
ثم وقع من أبينا آدم عليه الصلاة والسلام المعصية بالأكل من الشجرة وأهبط إلى الأرض فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية لبني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات:
قال في الأولى جل وعلا: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير}، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة، والريش هو اللباس الزائد عن الضروري التي يتجمل به الإنسان.
{قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم} أي عوراتكم، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوؤه أن تظهر عورته للناس، فالله يقول في باب الامتنان على عباده: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا} لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به.
فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال جل وعلا: {ولباس التقوى ذلك خير} أي خير من كل شيء خير من كل لباس.
ولباس التقوى: أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس:
ليس الجمال بمئزر ** فاعلم وإن رديت بردا

إن الجمال معادن ومنـا ** قـب أورثن مجدا

فاللباس الحسي يبلى يبيد ولا ينفعك في الآخرة تستر به عورتك في الدنيا أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.
ثم قال الله جل وعلا: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}، سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية.
{يا بني آدم} هذا خطاب ويسمى نداء علامة فمتى يسمى النداء نداء كرامة؟ إذا قال الله في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} هذا نداء كرامة، وإذا قال: {يا أيها الناس} أو {يا بني آدم} هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر وإنما علموا بنسبتهم إلى أبيهم.
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} وهو العدو الأول {كما أخرج أبويكم من الجنة} الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة إن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تغلب لكن معيار التغليب يختلف من مثنى إلى مثنى، فقالوا في الأبوين الأبوان غلبوا الرجل على المرأة لأن الرجل أفضل من المرأة عموما، وقالوا في المدينة ومكة المكتان لأن مكة أفضل عند الجمهور، وقالوا في الحسن والحسين الحسنان لأن الحسن أكبر، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال

فلو كل النساء كمن ذكرنا ** لفضلت النساء على الرجال

لأن القمر مذكر قالوا القمران.
فهنا قول الله جل وعلا: {لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما} لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم.
من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن، أول طريق للمعصية نزع الحياء من قلب المؤمن فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عوراتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتستمرئ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم.